صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الغرب نقيضًا للحضارة، ضمن سلسلة ترجمان، وهو نصوص مختارة لمجموعة من المؤلفين، جمعها وحررها روبير جولان، وكتب عددًا منها في الكتاب الصادر باللغة الفرنسية La Décivilisation: Politique et pratique de l’éthnocide. الكتاب من ترجمة مراد دياني، ويقع في 240 صفحة، شاملًا مقدّمة للمترجم وقائمة للمراجع وملحقًا وفهرسًا عامًّا.
يطرح الكتاب سؤالًا غير بدهي: هل الغرب "حضارة"؟ وكانت الإجابة عنه غير متوقعة، مفادها أنّ الغرب ليس حضارة. أمّا فكرته الأساسية فتتمثل بأنّ الحضارة تعني التعدد والانفتاح وتقبّل الآخر والاعتراف بوجوده وبحقوقه، وعندما تسود الأحادية والإقصاء تتحول إلى "حضارة إفناء". ويؤكد الكاتب أنّ الغرب خير ممثّل للأحادية، التي تعني إنكار الآخر والسعي إلى إبادته.
يكشف الكتاب ارتباط جوهر الغرب بنزعة إمبريالية تسعى للهيمنة، ليس عبر السيطرة فحسب، بل من خلال إنكار الآخر إنكارًا كاملًا؛ وجودًا وهويةً وثقافةً وحضارةً، وقد تجسّدت هذه النزعة في عمليات الإبادة الجماعية للسكان الأصليين في الأميركتين، حيث استخدمت أساليب وحشية، من بينها الحرب الجرثومية، مثل نشر وباء الجدري عمدًا بين الهنود الأميركيين الأصليين. وقد استمرت الإبادة في الولايات المتحدة الأميركية عبر قوانين، مثل قانون "إزالة الهنود الحمر"، وأجبرت السكان الأصليين على التهجير القسري؛ ما أدى إلى القضاء على مجتمعاتهم وثقافاتهم. ولم تكن عمليات الإبادة الجماعية هذه جسدية فقط، بل وصلت إلى حد الإبادة الثقافية والحضارية، عبر طمس لغات السكان الأصليين، وتدمير تراثهم، وفرض نمط الحياة الغربي عليهم بالقوة. ولم تقتصر هذه النزعة على الشعوب غير الغربية، بل استهدفت حتى الأصوات المعارضة داخل الغرب ذاته.
ويرى المؤلف أنّ الغرب لم يتأسّس انطلاقًا من العلم الإغريقي أو الفلسفة الرومانية أو الثورات الديمقراطية بل تأسس على العنف والإنكار والإبادة. ومن ثمَّ، يربط بين مشروع إبادة السكان الأصليين في الأميركتين والمشروع الصهيوني ضد الفلسطينيين، فالنموذجان يتشابهان في محاولة إنكار وجود السكان الأصليين وتجريدهم من حقوقهم.
ثم يطرح الكتاب التساؤل المهمّ: لماذا أُبيدَ السكان الأصليون في الأميركتين بدلًا من استعبادهم كما حدث للأفارقة؟ وأفادت الإجابة أنّ الروح الإمبريالية الغربية لم تكن اقتصادية فحسب، بل كانت تسعى إلى التفوق وإبادة الآخر كليًّا أيضًا. وشكّلت هذه الروح الأحادية هوية الغرب، التي يعالجها جولان من خلال مقاربات إثنوغرافية متعددة، انطلاقًا من تجربته الميدانية مع قبائل الهنود الأميركيين الأصليين.
يناقش المؤلف أيضًا استمرار الغرب في تكريس الأحادية من خلال تحقير الثقافات غير الغربية واختزالها في ما يُسَمَّى "الفلكلور"، ومن خلال الروايات التاريخية الرسمية التي تُقصي رؤية الشعوب المستعمرة والمضطهدة. ويرى أن الوقوف في وجه هذه النزعة الأحادية لا يتحقق إلا باستعادة التعددية الثقافية والاعتراف بالآخر، وهذا ما يطرحه التيار التأريخي المعروف بـ "التاريخ الشامل" الذي يسعى إلى قراءة الماضي من وجهة نظر الشعوب المضطهدة.
يُعدّ الكتاب نقدًا لاذعًا للغرب من منظور إثنوغرافي؛ إذ إنه يفكك أسطورة "الحضارة الغربية" ويكشف طبيعتها الإقصائية والإبادية والوحشية. وفيه دعوة إلى استعادة "الإنسانية بصيغة الجمع"، بدلًا من الخضوع للأحادية الغربية التي سادت العالم منذ قرون.
في الختام، تكمن أهمية الكتاب، في نظر مؤلّفيه، في أنه يجعلنا نفهم الغرب على حقيقته، من خلال تسليط الضوء على نشأته وتكوّنه، اللذَين استندا إلى النزعة الأحادية والفكر الأحادي وإنكار الآخر وعدم الاعتراف به، وصولًا إلى إبادته. وقد ركّز على "الإبادة الثقافية"، سواء في الحضارات الهندية الأميركية الأصلية، أو في البلدان المستعمَرة التي شهدت تحقيرًا لموروثها الثقافي من خلال النظرة الاستعلائية للمُستعمِر. من هنا، ليس هذا المؤلَّف، الذي تناول الإبادة الجماعية وعرَض أسبابها وملابساتها، عبر تسلسل زمني وأثر تاريخي وسياسي واقتصادي واضح، وآثارها السلبية في الحضارات المبادة، مجرّد سرد لوقائع وحوادث دموية، بل هو أيضًا مرجع لكل باحث ودارس مهتم بالموضوع المطروح، لما فيه من معلومات وافرة تحتاج إليها المكتبة العربية.